اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَداً ، وَبَارِكْ لَهُ' [من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له]
كان أنس بن مالك فى عمر الورد حين لقتنه أمه 'الغميصاء' الشهادتين، وملئت فؤاده الغض بحب نبى الإسلام محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وكم تمنى الغلام الصغير أن يمضى إلى نبيه فى مكة ، أو يفد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عليهم فى 'يَثْرِبَ' ليسعد برؤياه ، ويهنأ بلقياه. لم يمض على ذلك طويل وقت حتى سرى فى 'يَثْرِبَ' المخطوطة المغبوطة أن النبى صلوات الله وسلامه عليه وصاحبه الصديق فى طريقهما إليها .. فغمرت البهجة كل بيت وملأت الفرحة كل قلب.
وأخذ الفتيان يشيعون مع إشراقة كل صباح: أَنَّ مُحَمَّداً قَدْ جَاءَ ... وفى ذات صباح هتف رجال فى 'يَثْرِبَ' : إن محمداً وصاحبه غدوا قريبين من المدينة. فطفق الرجال يتجهون نحو الطريق المسمون الذى يحمل إليهم نبى الهدى والخير.
ومضوا يتسابقون اليه جماعات جماعات ، تتخللهم أسراب من صغار الفتيان تزعرد على وجوهم فرحة تغمر قلوبهم الصغيرة، وتترع أفئدتهم الفتية وكان فى طليعة هؤلاء الصبية أنس بم مالك الانصارى.
أقبل الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع صاحبه الصديق.. فكان ذلك اليوم يوما مشهودا ظل انس بن مالك يذكره حتى نيف على المائه من عمره.
ما كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يستقر بالمدينة ، حتى جاءته 'الغُمَيْصَاءُ بِنْتُ مِلْحَانَ' أُمُّ أَنَسٍ ، وكان معها غلامها الصغير وهو يسعى بين يديها ثم حيث النبى عليه الصلاة والسلام وقالت: يا رسول الله .. لم يبق رجل ولا امرأة من الأنصار إلا وقد أتحفك بتحفة ، وإنى لا أجد ما اتحفك به غير ابنى هذا.. فخذه ، فليخدمك ما شئت.. فهش النبى صلى الله عليه وسلم للفتى الصغير وبش ، ومسح رأسه بيده الشريفة، وضمه الى أهله.
كان انس بن مالك أو 'أُنَيْسٌ' – كما كانوا ينادونه تدليلا – فى العاشرة من عمره يوم سَعِِدَ بخدمة النبى صلوات الله وسلامه عليه. وظل يعيش فى كنفه ورعايته الى ان لحق النبى الكريم صلا الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى.
فكانت مدة صحبته له عشر سنوات كاملات ، نهل فيها من هدية ما زكى به نفسه ، ووعى من حديثه ما ملأ به صدره ، وعرف من أحواله وأخباره وأسراره وشَمَائِلِهِ ما لم يعرفه أحد سواه.
وقد لقى أنس بن مالك من كريم معاملة النبى صلوات الله وسلامة عليه ما لم يظفر به ولد من والد .. وذاق من نبيل شَمَائِلِهِ ، وجليل خصائله ما تغبطه عليه الدنيا.
فلنترك لانس الحديث عن بعض الصور الوضاءة من هذه المعاملة الكريمة.. قال انس بن مالك: كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه من أحسن الناس خلقا وأرحبهم صدرا، وأوفرهم حنانا.. فقد ارسلنى يوما لحاجة فخرجت ، وقصدت صبيانا يلعبون فى السوق لألعب معم ولم أذهب إلى ما أمرنى به ، فلما صرت إليهم شعرت بإنسان يقف خلفى ، ويأخذ بثوبى .. فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: (يا أنيس أذهبت حيث أمرتك؟) فارتبكت وقلت : نعم .. إنى ذاهب الآن يا رسول الله..
والله لقد خدمته عشر سنين ، فغما قال لشئ صنعته : لم صنعته .. ولا لشئ تركته : لم تركته ؟! وكان الرسول صلوات اله وسلامه عليه إذا نادى أنسا صَغَّرَهُ تحببا وتدليلا ، فتارة يناديه يا أنيس، وأخرى يا بنى. وكان يغدق عليه من نصائحه ومواعظه ما ملأ قلبه وملك لُبَّهُ.
من ذلك قوله له : (يا بنى إن قدرت أن تصبح وتمسى وليس فى قلبك غش لأحد فافعل .. يا بنى إن ذلك من سنتى ، ومن أحيا سنتى فقد أحبنى .. ومن أحبنى كان معى فى الجنة .. يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى اهل بيتك).
عاش أنس بن مالك بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام نَيِّفاً وثمانين عاما، ملأ خلالها الصدور علماً من علم الرسول الأعظم عليه الصلاة صلى الله عليه وسلم ، وأَتْرَعَ فيها العقول فقها من فقه النبوة.. وقد غدا أنس على طول هذا العمر المديد مرجعا للمسلمين ، يفزعون اليه كلما أشكل عليهم أمر ، ويُعَوِّلُونَ عليه كلما اسْتَغْلَقَ على أفهامهم حكم. من ذلك أن بعض الممارين فى الدين جعلوا يتكلمون فى ثبوت حوض النبى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فسألوه فى ذلك ، فقال: ما كنت أطن أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون فى الحوض ، لقد تركت عجائز خلفى ما تصلى واحدة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض النبى عليه الصلاة والسلام.
ولقد ظل أنس بن مالك يعيش مع ذكرى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ما امتدت به الحياة.. فكان شديد البهجة بيوم لقائه ، سخى الدمعة على سوم فراقه ، كثير الترديد لكلامه.. حريصا على متابعته فى أفعاله وأقواله ، يحب ما أحب ، ويكره ما كره ، وكان أكثر ما يذكره من أيامه يومان: يوم لقائه مع أول مرة ، ويوم مفارقته له أخر مرة.
فإذا ذكر اليوم الأول سعد به وانْتَشَى ، وإذا خطر له اليوم الثانى انتحب وبكى ، وأبكى من حوله من الناس. وكثيراً ما كان يقول : لقد رأيت النبى عليه الصلاة والسلام يوم دخل علينا ، ورأيته يوم قبض منا، فلم أر يومين يشبهانهما.
وكان آخر نظرة نظرتها إليه يوم الاثنين حين كشفت الستارة عن حجرته ، فرأيت وجهه كأنه ورقة مصحف ، وكان الناس يومئذ وقوفا خلف أبى بكر ينظرون اليه ، وقد كادوا أن يضطربوا ، فأشار إليهم أبو بكر أن أثبتوا.
تم توفى الرسول عليه الصلاة والسلام فى آخر ذلك اليوم ، فما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجهة – صلى الله عليه وسلم – حين واريناه ترابه.
ولقد دعا رسول الله صلوات الله عليه لأنس بن مالك أكثر من مرة .. وكان من دعائه له: (اللهم ارزقه مالا وولدا ، وبارك له) وقد استجاب الله سبحانه دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام ، فكان أنس أكثر الأنصار مالا ، وأوفرهم ذرية ، حتى إنه رأى من أولاده وحفدته ما يزيد على المائة. وقد بارك الله له فى عمره حتى عاش قرنا كاملا.. وفوقه ثلاث سنوات.
ولما مرض أنس بن مالك مرض الموت قال لأهله: لقنونى : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .. ثم ظل يقولها حتى مات. وقد أوصى بِعُصَيَّهَ صغيرة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تدفن معه ، فوضعت بين جنبه وقميصه.
هنيئا لأنس بن مالك الأنصارى على ما أسبغه الله عليه من خير.
فقد عاش فى كنف الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عشر سنوات كاملات وكان ثالث اثنين فى رواية حديثه هُمَا أَبُو هُرَيْرَةَ ، وعبد الله بن عمر وجزاه الله هو وأمه الغُمَيْصَاءَ عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.[/size]